الصيام عن المعاصي
--------------------------------------------------------------------------------
يعرف جمهور العلماء الصيام بأنه: الإمساك عن المفطرات في نهار رمضان، ويقصدون بالمفطرات: الطعام والشراب والجماع، وقد مضى في الحلقة الأولى.
وبناء على ذلك لا يبطل الصوم إلا بالمفطرات لثلاثة المذكورة...
وإذا ارتكب الصائم بعض الذنوب، كالغيبة والنميمة، والسب والضرب والسرقة، وشهادة الزور والكذب، فلا يكون مفطرا بذلك، وإن تضاعف إثمه في هذا الشهر الكريم... هذا هو مذهب جماهير العلماء...
قال النووي: " فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه...." [المجموع (6/372-374)]
ويرى بعض العلماء، أن المعاصي تبطل الصوم، واستدلوا بأدلة:
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [البخاري برقم (1804)]
ومنها حديثه – أيضا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) [أحمد برقم (8843) والحاكم في المستدرك برقم (1571) وقال: ""هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وذكره في مجمع الزوائد عن ابن عمر ((3/202) وقال: " رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون".
ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحدا وجهل عليك، فقل: إني صائم) المستدرك برقم (1570) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"
ومنها حديثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: .... والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم) [باختصار من البخاري (1795) ومسلم (1151)]
وقد جزم ابن حزم الظاهري رحمه الله، بأن الصائم إذا تعمد إتيان المعاصي، عالما بها، ذاكرا لصومه، بطل صومه، وذكر الأحاديث السابقة وغيرها، مستدلا بها على رأيه، كما ذكر من رأى ذلك من الصحابة والتابعين وغيرهم، وأطال الرد على المخالفين.
قال: "734 مسألة ويُبطل الصومَ أيضا تعمدُ كل معصية، أي معصية كانت لا تحاش، إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه، كمباشرة من لا يحل له، من أنثى أو ذكر، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له، من أنثى أو ذكر، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما، أو كذب أو غيبة أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم ذلك من كل ما حرم على المرء فعله...." [المحلى (6/177)]
وفي المذهب الحنبلي قال أحمد: "لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم ... وذكر الشيخ تقي الدين وجها يفطر بغبة ونميمة ونحوهما، قال في الفروع فيتوجه منه احتمال يفطر بكل محرم، وقال أنس: إذا اغتاب الصائم أفطر، وعن إبراهيم قال: كانوا يقولون الكذب يفطر الصائم، وعن الأوزاعي أن من شاتم فسد صومه لظاهر النهي، وذكر بعض أصحابنا رواية يفطر بسماع الغيبه، وأسقط أبو الفرج ثوابه بالغيبة" المبدع (3/41)
وقد تأول الجمهور هذه الأحاديث بأن المراد منها زجر الصائم وتحذيره، من ارتكاب الآثام في هذا الشهر الفضيل، ليصون صومه مما يشوبه من المعاصي، ويكون كامل الثواب، وليس المراد بطلان صومه.
قال النووي: "وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث، بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الردىء، لا أن الصوم يبطل به... وأجاب عنه الماوردي والمتولي وغيرهما، بأن المراد بطلان الثواب، لا نفس الصوم" [المجموع (6/372-374)]
وقد أطال ابن حزم في الرد على هذا التأويل، فليراجعه من شاء.
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
ومهما يكن الأمر، فإن القائلين بصحة صوم مرتكب المعاصي، وعدم بطلان الصوم بها، إنما ينظرون إلى الحكم الفقهي الظاهر، وهو سقوط الحكم عن الصائم، ويبقى بعد ذلك قبول عمله عند ربه في واقع الأمر، الذي لا يجرؤ أحد على القول بقبول الله تعالى صيام من لم تصم جوارحه عن معاصي الله تعالى، فقد يحبط الله عمله، لجرأته على معصية الله، وانتهاكه لحرمة هذا الشهر الفضيل، وقد تزيد سيئاته في شهر رمضان على حسناته، فيخسر أجر صيامه وقيامه، فيكون كمن لم يصم رمضان، وهذا يكفي زاجرا للمسلم العاقل.
وإذا رجعنا إلى كتاب الله، وجدنا فيه أن العبادة التي يقوم بها المسلم، تؤدي إلى تقواه وتعينه على فعل طاعاته وترك معاصيه.
فقد أكد تعالى أن إقامة الصلاة على الوجه الشرعي الذي يرضي الله، تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: ((اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)) [العنكبوت (45)]
والصلاة تطهر صاحبها من الذنوب والآثام، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء)؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) [البخاري برقم (505) ومسلم برقم (667)]
وذكر تعالى أن المؤمن الذي يقوم بفريضة الحج، يجب أن يدع ما يفوت عليه كماله المفضي إلى فوات أجره أو نقصه، وأمر الحاج أن يتقيه تعالى ويتزود من تقواه، فقال تعالى: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب )) [البقرة (197)]
ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم، من حج واتقى الله في حجه، أنه يرجع من حجه طاهرا من الذنوب والآثام، وكأنه خرج لتوه من رحم أمه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ( من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) [البخاري (1449)]
وأشار تعالى في فرضه الصيام، أن من آثاره تقوى الله، فقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة (183)]
وهؤلاء المتقون وحدهم هم المنتفعون بكتاب الله، والمهتدون بهداه، مع أنه نزل يدعو كل الناس إلى هدايته: كما قال تعالى في سياق آيات شهر رمضان: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)) [البقرة (185)] ولكنه في واقع الأمر ((هدى للمتقين)) [البقرة (2)]
وهؤلاء المتقون هم الذين يحبهم الله: ((فإن الله يحب المتقين)) [آل عمران (76)]
وهم وحدهم الذين يقبل الله أعمالهم: ((إنما يتقبل الله من المتقين)) [المائدة (27)]
وهم وحدهم المؤهلون لدخول الجنة: ((إن المتقين في جنات وعيون)) [الحجر(45)]
((وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين)) [النحل(30)]
وتقوى الله تدفع المؤمن إلى طاعته، وترك معاصيه، ولا يتأهل للسفر إلى الجنة إلا المتقون.
وهذا المعنى هو الذي يجب أن يجعله المؤمن هدفه من صيامه، وهو المزيد من طاعة الله، والطمع قبوله طاعته، والفوز بتقواه، ونيل ثوابه ورضاه، الوقاية من إحباط عمله بالبعد عن معاصي الله، ولا يقف به همه عند التفكير في صحة صيامه فقط، بل يكون من المتنافسين في طاعة الله، ليصل إلى درجات عباد الله الصالحين، يكوم ممن قال الله تعالى فيهم:
((إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)) (61) [المؤمنون]
وإذا اقترف شيئا من المعاصي، فلا ييأس من رحمة الله وليجاهد نفسه، وليعزم على التوبة النصوح التي يبدل الله بها سيئاته حسنات:
((ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير)) [التحريم (
]
((وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)) [الور (31)]
((التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)) [التوبة (112)]